فصل: تفسير الآية رقم (174)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏173‏]‏

‏{‏أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏173‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْ تَقُولُواْ‏}‏ في ذلك اليوم ‏{‏أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا‏}‏ أي إن آباءنا هم اخترعوا الإشراك وهم سنوه من قبل زماننا ‏{‏وَكُنَّا‏}‏ نحن ‏{‏ذُرّيَّةً مّن بَعْدِهِمْ‏}‏ لا نهتدي إلى سبيل التوحيد ‏{‏أَفَتُهْلِكُنَا‏}‏ أي أتؤاخذنا فتهلكنا اليوم بالعذاب ‏{‏بِمَا فَعَلَ المبطلون‏}‏ من آبائنا المضلين لا نراك تفعل‏.‏ و‏{‏أَوْ‏}‏ لمنع الخلو دون الجمع، وفعل القول عطف على نظيره‏.‏ وقرأهما أبو عمرو بالياء على الغيبة لأن صدر الكلام عليها، ووجه قراءة الخطاب ما علمت‏.‏ وقال البعض‏:‏ إن ذاك لقول الرب تعالى ربكم وإنما وإنما لم يسع القوم هذا القول ون ما ذكر من استعدادهم يضيق عليهم المسالك إليه إذ التقليد عند قيام الدلائل والقدرة على الاستدلال بها مما لا مساغ إليه أصلاً‏.‏ هذا والذي عليه المحدثون والصوفية قاطبة أن الله تعالى أخذ من العباد بأسرهم ميثاقاً قالياً قبل أن يظهروا بهذه البنية المخصوصة وأن الإخراج من الظهور كان قبل أيضاً‏.‏

فقد أخرج أحمد‏.‏ والنسائي‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والحاكم وصححه‏.‏ والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن الله تعالى أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة فاخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنشرها بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلاً ألست بربكم‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى شهدنا»‏.‏ أخرج مالك في الموطى‏.‏ وأحمد‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ والبخاري في التاريخ‏.‏ وأبو داود‏.‏ والترمذي وحسنه‏.‏ والنسائي‏.‏ وابن جرير وخلق كثير عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه سئل عن هذه الآية ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ الخ فقال‏:‏ «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال‏:‏ إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال‏:‏ خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال‏:‏ خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال الرجل‏:‏ يا رسول الله ففيم العمل‏؟‏ فقال‏:‏ إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الله الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله الله تعالى النار» والبيضاوي حمل الآية في تفسيره على التمثيل وكذا في شرحه للمصابيح وذكر فيه أن ظاهر حديث عمر رضي الله تعالى عنه لا يساعد ذلك ولا ظاهر الآية لأنه سبحانه وتعالى لو أراد أن يذكر أنه استخرج الذرية من صلب آدم دفعة واحدة لا على توليد بعضهم من بعض على مر الزمان لقال‏:‏ وإذ أخذ ربك من ظهر آدم ذريته، والتوفيق بينهما أن يقال‏:‏ المراد من بني آدم في الآية وأولاده وكأنه صار اسماً للنوع كالإنسان والبشر، والمراد بالإخراج توليد بعضهم من بعض على مر الزمان واقتصر في الحديث على ذكر آدم اكتفاء بذكر الأصل عن ذكر الفرع، وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث

«مسح ظهر آدم» يحتمل أن يكون الماسح الملك الموكل على تصوير الأجنة وتخليقها وجمع موادها وأسند إلى الله تعالى لأنه الآمر كما أسند التوفي إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَتَوَفَّى الانفس حِينَ مِوْتِهَا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 42‏]‏ والمتوفي لها هو الملك لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تتوفاهم الملائكة‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 28‏]‏ ويحتمل أن يكون الماسح هو الله تعالى ويكون المسح من باب التمثيل، وقيل‏:‏ هو من المساحة بمعنى التقدير كأنه قال‏:‏ قدر ما فـ ظهره من الذرية انتهى كلامه‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ ليس المعنى في الحديث أنه تعالى أخرج الكل من ظهر آدم عليه السلام بالذات بل أخرج من ظهره أبناءه الصلبية ومن ظهورهم أبناءهم الصلبية وهكذا إلى آخر السلسلة لكن لما كان المظهر الأصلي ظهره عليه الصلاة والسلام وكان مساق الحديث بيان حال الفريقين إجمالاً من غير أن يتعلق بذكر الوسائط غرض علمي نسب إخراج الكل إليه، وأما الآية الكريمة فحيث كانت مسوقة للاحتجاج على الكفرة المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان عدم إفادة الاعتذار بإسناد الإشراك إلى آبائهم اقتضى الحال نسبة إخراج كل واحد منهم إلى ظهر أبيه من غير تعرض لإخراج الأبناء الصلبية لآدم عليه السلام من ظهره قطعاً، وعدم بيان الميثاق في الخبر العمري ليس بياناً لعدمه ولا مستلزماً له اه‏.‏

وأنت تعلم أن التأويل الذي ذكره البيضاوي يأبى عنه كل الآباء حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأن ما ذكره البعض من أن مساق الحديث بيان حال الفريقين إجمالاً يأباه ظهور عدم كون السؤال عن حالهما ليساق الحديث لبيانه فإن الظاهر أن الصحابي إنما سأله عليه الصلاة والسلام عما أشكل عليه من معنى الآية أن الاشهاد هل هو حقيقة أم على الاستعارة‏؟‏ فلما أجابه صلى الله عليه وسلم بما عرف منه ما أراده سكت لأنه كان بليغاً ولو أشكل عليه من جهة أخرى لكان الواجب بيان تلك الجهة وكذا فهم الفاروق رضي الله تعالى عنه‏.‏

ومن هنا يعلم أن قول الإمام أن ظاهر الآية يدل على إخراج الذرية من ظهر بني آدم، وليس فيها ما يدل على أنهم أخرجوا من صلب آدم ولا ما يدل على نفيه إلا أن الخبر دل عليه فيثبت خروجهم من آدم بالحديث ومن بنيه بالآية لا يطابق سياق الحديث كما لا يخفى، وقال الشيخ شهاب الدين التوربشتي‏:‏ إنما جد كثير من أهل العلم في الهرب عن القول في معنى الآية بما يقتضيه ظاهر خبر الحبر لمكان قول سبحانه‏:‏

‏{‏أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ فقالوا‏:‏ إن كان هذا الإقرار عن اضطرار حيث كوشفوا بحقيقة الأمر وشاهدوه عين اليقين فلهم ذلك اليوم أن يقولوا‏:‏ شهدنا يومئذ فلما زال عنا علم الضرورة ووكلنا إلى آرائنا كان منا من أصاب ومنا من أخطأ وإن كان عن استدلال ولكنهم عصموا عنده من الخطأ فلهم أيضاً أن يقولوا‏:‏ أيدنا يوم الإقرار بتوفيق وعصمه وحرمناهما من بعد ولو امددنا بهما أبداً لكانت شهادتنا في كل حين كشهادتنا في اليوم الأول فيتعين حينئذ أن يراد بالميثاق ما ركب الله تعالى فيهم من العقول وآتاهم من البصائر لأنها هي الحجة البالغة والمانعة عن قولهم ‏{‏إنا كنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ الخ لأن الله تعالى جعل الإقرار والتمكن من معرفة ربوبيته ووحدانيته سبحانه حجة عليهم في الإشراك كما جعل بعث الرسول حجة عليهم في الايمان بما أخبر عنه من الغيوب انتهى‏.‏

وحاصله أنه لو لم تؤول الآية بما ذكر يلزم أن لا يكون محجوجين يوم القيامة، وقد أجيب عنه باختبار كل من الشقين ورفع محذوره‏.‏ أما الأول‏:‏ فبأن يقال‏:‏ إذا قالوا شهدنا يومئذ فلما زال علم الضرورة ووكلنا إلى آرائنا كان كذا أيها الكذابون متى وكلتم إلى إرائكم ألم نرسل رسلنا تترى ليوقظكم عن سنة الغفلة‏؟‏ وأما الثاني‏:‏ فبأن يقال‏:‏ إن هذا مشترك الالزام فإنه إذا قيل لهم‏:‏ ألم نمنحكم العقول والبصائر‏:‏ فلهم أن يقولوا‏؟‏ فإذا حرمنا اللطف والتوفيق فأي منفعة لنا في العقل والبصيرة‏؟‏ وذكر محيى السنة في جواب أنه كيف تلزم الحجة ولا أحد يذكر ذلك الميثاق أن الله تعالى قد أوضح الدلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا به فمن أنكره كان معانداً ناقضاً للعهد ولزمته الحجة ونسيانه وعدم حفظه لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق، ولا يخفى ما فيخ، ولهذا أجاب بعضهم بأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَن تَقُولُواْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ الخ ليس مفعولاً له لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَشْهَدَهُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ وما يتفرع عليه من قولهم ‏{‏بلى شَهِدْنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ حتى يجب كون ذلك الإشهاد والشهادة محفوظاً لهم في إلزامهم بل لفعل مضمر ينسحب عليه الكلام، والمعنى فعلنا ما فعلنا من الأمر بذكر الميثاق وبيانه كراهة أن تقولوا أو لئلا تقولوا أيها الكفرة يوم القيامة إنا كنا غافلين عن ذلك الميثاق لم ننبه عليه في دار التكليف وإلا لعملنا بموجبه، هذا على قراءة الجمهور، أما على القراءة الأخرى فهو مفعول له لنفس الأمر المضمر العامل في ‏{‏إِذْ أَخَذَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ والمعنى اذكر لهم الميثاق المأخوذ منهم فيما مضى لئلا يعتذروا يوم القيامة بالغفلة عنه أو بتقليد الآباء، ثم قال‏:‏ هذا على تقدير كون ‏{‏شهدنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ من كلام الذرية وهو الظاهر فإما على تقدير كونه من كلام الله تعالى فهو العامل في

‏{‏أَن تَقُولُواْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ ولا محذور أصلاً والمعنى شهدنا قولكم هذا لئلا تقولوا يوم القيامة الخ لأنا نردكم ونكذبكم حينئذ انتهى‏.‏

ولا يخفى أن ما ذكره أولاً من تعلق ‏{‏ءانٍ‏}‏ وما بعدها بفعل مضمر ينسحب عليه الكلام أو بنفس الفعل المضمر العامل في ‏{‏إِذْ‏}‏ وضاح في دفع السؤال الذي أشرنا إليه، وإنه لعمري في غاية الحسن إلا أن الظاهر تعلقه بالاشهاد وما يتفرع عليه، وأرى الجواب مع عدم العدول عنه لا يخلو عن العدول عنه، ويؤيد ماذكره ثانياً من كون ‏{‏شَهِدْنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ من كلام الله تعالى وكونه العامل ما أخرجه ابن عبد البر في التمهيد من طريق السدي عن أبي مالك‏.‏ وعن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏ وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وناس من الصحابة أنهم قالوا في الآية‏:‏ لما أخرج الله تعالى آدم من الجنة قبل تهبيطه من السماء مسح صفح ظهره اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر فقال لهم‏:‏ ادخلوا الجنة برحمتى ومصح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر فقال‏:‏ ادخلوا النار ولا أبالي فذلك قوله تعالى‏:‏ أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ثم أخذ منهم الميثاق فقال‏:‏ ‏{‏ألست بربكم‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية فقال‏:‏ هو والملائكة ‏{‏شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ الحديث، وفيه مخالفة لما روى عن الحبر أولاً من أن الأخذ كان بنعمان إذ هو ظاهر في كون ذلك بعد الهبوط وهذا ظاهر في كونه كان قبل، وفي بعض الأخبار مايقتضي أنه كان إذ كان عرضه سبحانه على الماء، فقد أخرج عبد بن حميد‏.‏ والحكيم الترمذي في نوادر الأصول‏.‏ والطبراني‏.‏ وأبو الشيخ في العظمة‏.‏ وابن مردويه عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «خلق الله تعالى الخلق وقضى القضية وأخذ ميثاق النبيين وعرشه على الماء فأخذ أهل اليمين بيمينه وأخذ أهل الشمال بيده الأخرى وكلتا يدي الرحمن يمين فقال‏:‏ يا أصحاب اليمين فاستجابوا له فقالوا له‏:‏ لبيك ربنا وسعديك قال‏:‏ ألست بربكم‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ يا أصحاب الشمال فاستجابوا له فقالوا له لبيك ربنا وسعديك قال‏:‏ ألست بربكم‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى» فخلط بعضهم ببعض الخبر، وذكر بعضهم أنه كان بالهند حيث هبط آدم عليه السلام، وآخرون أنه كان في موضع الكعبة وأن الذرية المخرجة من ظهر آدم عليه السلام كالذر أحاطت به، وجعل المحل الذي شغلته إذ ذاك حرماً، وليس لهذا سند يعول عليه، والتوفيق بين هذه الروايات مشكل إلا أن يقال بتعدد أخذ الميثاق، وإليه ذهب السادة السوفية قدس الله تعالى أسرارهم، لكن يشعر كلامهم باختلاف النوع، فقد قال بعضهم‏:‏ رأيت من يستحضر قبل ميثاق

‏{‏أَلَسْتَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ ستة مواطن أخرى ميثاقية فذكرت ذلك لشيخنا رضي الله تعالى عنه فقال‏:‏ إن قصد القائل بالحضرات الستة التي عرفها قبل ميثاق ‏{‏أَلَسْتَ‏}‏ الكليات فمسلم، وأما إن أراد جملة الحضرات الميثاقية التي قبل ‏{‏أَلَسْتَ‏}‏ فهي أكثر من ذلك، ويعلم من هذا ما في قولهم‏:‏ لا أحد يذكر ذلك الميثاق على وجه السلب الكلي من المنع، وقد روى عن ذي النون أيضاً وقد سئل عن ذلك هل تذكره أنه قال‏:‏ كأنه الآن في أذني‏.‏ وقال بعضهم مستقرباً له‏:‏ إن هذا الميثاق بالأمس كان وأشار فيه أيضاً إلى مواثيق أخر كانت قبل، ويمكن أن يقال مرادهم من تلك السالبة لا أحد من المشركين يذكر ذلك الميثاق لا لا أحد مطلقاً‏.‏

وذكر قطب الحق والدين العلامة الشيرازي في التوفيق بين الآية والخبر العمري كلاماً ارتضاه الفحول وتلقوه بالقبول وحاصله‏:‏ أن جواب النبي صلى الله عليه وسلم إذ سئل عن الآية من قبيل أسلوب الحكيم وذلك أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن بيان الميثاق الحالي فأجاب ببيان الميثاق المقالي على ألطف وجه‏.‏

وبيانه أنسبحانه كان له ميثاقان مع بني آدم‏.‏ أحدهما‏:‏ تهتدي إليه العقول من نصب الأدلة الباعثة على الاعتراف الحالي‏.‏ وثانيهما‏:‏ المقالي الذي لا يهتدي إليه العقل بل يتوقف على توقيف واقف على أحوال العباد من الأزل إلى الأبد كالأنبياء عليهم السلام فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم الأمة ويخبرهم عن أن وراء الميثاق الذي يهتدون إليه بعقولهم ميثاقاً آخر أزلياً فقال ما قال من مسح ظهر آدم عليه السلام في الأزل وإخراج الذرية ليعرف منه أن هذا النسل الذي يخرج في لا يزال من أصلاب بني آدم هو الذر الذي أخرج في الأزل من صلب آدم وأخذ منه الميثاق المقالي الأزلي كما أخذ منهم في لا يزال بالتدريج حين أخرجوا الميثاق الحالي اللايزالي اه وهو حسن كما قالوا، لكن ينبغي أن يحمل الأزل فيه ولا يزال على المجاز لأن خروج النسل محدود بيوم القيامة وعلى القول بعدم انقطاعه بعده هو خاص بالسعداء على وجه خاص كما علم في محله والأمر حادث لا أزلى وإلا لزم خرق إجماع المسلمين والتدافع بين الآية وكان الله تعالى ولم يكن معه شيء، ونقل عن الخلخالي أنه شمر عن ساقه في دفع ذلك فقال‏:‏ المخاطبون هم الصور العلمية القديمة التي هي ماهيات الأشياء وحقائقها ويسمونها الأعيان الثاتبة وليست تلك الصور موجودة في الخارج فلا يتعلق بها بحسب ذلك الثبوت جعل بل هي في ذواتهاغير محتاجة إلى ما يجعلها تلك الصور وهي صادرة عنه تعالى بالفيض الأقدس وقد صرحوا بأنها شؤنات واعتبارات للذات الاحدى وجوابهم بقولهم‏:‏ بلى إنماهو بألسنة استعداداتهم الأزلية لا بالألسنة التي هي بعد تحققها في الخارج انتهى‏.‏

وهو مبني على الفرق بين البثوت والوجود وفيه نزاع طويل لكنا ممن يقول به والله لا يستحي من الحق، ومن هنا انقدح لبعض الأفاضل وجه آخر في التوفيق بين الآية والحديث وهو أن المراد بالذرية المستخرجة من صلب آدم عليه السلام وبنيه هو الصور العلمية والأعيان الثابتة وأن المراد باستخراجها هو تجلي الذات الإحدي وظهوره فيها وأن نسبة الإخراج إلى ظهورهم باعتباره أن تلك الصور إذا وجدت ففي الأعيان كانت عينهم وأن تلك المقاوملة حالية استعدادية أزلية لا قالية لا يزالية حادثة وهذا هو المراد بما نقل الشيخ العارف أبو عبد الرحمن السلمي في الحقائق عن بنان حيث قال‏:‏ أوجدهم لديه في كون الأزل ثم دعاهم فأجابهم سراعاً وعرفهم نفسه حين لم يكونوا في الصورة الإنسية ثم أخرجهم بمشيئته خلقاً وأودعهم في صلب آدم فقال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ الخ فأخبر أنه خاطبهم وهم غير موجودين إلا بوجوده لهم إذا كانوا واجدين للحق في غير وجودهم لأنفسهم وكان الحق بالحق في ذلك موجوداً ثم أنشد السلمي لبعضهم‏:‏

لو يسمعون كما سمعت كلامها *** خروا لعزة ركعاً وسجوداً

انتهى‏.‏

ولا يخفى أن هذا التوفيق بعيد بمراحل عن ذوق أرباب الظاهر لمخالفته لظواهر الأخبار والمتبادر من الآثار، وما نقل عن بنان فيه وهو أول كلامه انتخبهم للولاية واستخلصهم للكرامة، وجعل لهم فسوحاً في غوامض غيب الملكوت وبعده ما ذكر، وشموله لسائر الخلق سعيدهم وشقيهم لا يخلو عن بعد، وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن الله تعالى أبدع المبدعات وتجلى بلسان الأحدية في الربوبية فقال‏:‏ ألست بربكم‏؟‏ والمخاطب في غاية الصغاء فقالوا‏:‏ بلى‏.‏ فكان كمثل الصدا فإنهم أجابوه به فإن الوجود المحدث خيال منصوب وهذا الإشهاد كان إشهاد رحمة لأنه سبحانه ما قال لهم وحدي إبقاء عليهم لما علم أنهم يشركون به تعالى عن ذلك علواً كبيراً بما فيهم من الحظ الطبيعي وبما فيهم من قبول الاقتدار الإلهي وما يعلمه إلا قليل؛ وأنت تعلم أن محققي المفسرين اعتبروا الوحدانية في الإشهاد وكذا في الشهادة كما مرت الإشارة إليه ونطقت الآثار به، ومن ذلك ما أخرجه عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند‏.‏ والبيهقي‏.‏ وابن عساكر‏.‏ وجماعة عن أبي بن كعب أنه قال في الآية‏:‏ جمعهم جميعاً فجعلهم أرواحاً في صورهم ثم استنطقهم فتكلموا ثم أخذ عليهم العهد والميثاق وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ فإني أشهد عليكم السموات السبع وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة إنا لم نعلم بهذا اعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري ولا تشركوا بي شيئاً إني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي قالوا‏:‏ شهدنا بأنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك ولا إله لنا غيرك فأقروا ورفع عليهم آدم ينظر إليهم فرأى الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك فقال‏:‏ يا رب لولا سويت بين عبادك قال‏:‏ إني أحببت أن أشكر‏.‏

وبهذا يندفع ما يقال‏:‏ إن إقرار الذراري بربوبيته سبحانه لا ينافي الشرك لأن المشركين قائلون بربوبيته سبحانه كما يدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُونَ الله‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 87‏]‏ والمعتزلة ينكرون أخذ الميثاق القالي المشار إليه في الأخبار ويقولون‏:‏ إنها من جملة الآحاد فلا يلزمنا أن نترك لها ظاهر الكتاب وطعنوا في صحتها بمقدمات عقلية مبنية على قواعد فلسفية على ما هو دأبهم في أمثال هذه المطالب، قالوا أولاً‏:‏ إن أخذ الميثاق لا يمكن إلا من العاقل فوجب أن يتذكر الإنسان في هذا العالم ذلك الميثاق إذ لا يجوز للعاقل أن ينسى مثل هذه الواقعة العظيمة نسيا كلياً فحيث نسي كذلك دل على عدم وقوعها، وبنحو هذا الدليل بطل التناسخ‏.‏ وأجيب بأن العلم إنما هو بخلق الله تعالى فجاز أن لا يخلقه لحكمة علمها، ودليل بطلان التناسخ ليس منحصراً بما ذكر، فقد استدلوا أيضاً على بطلانه بلزوم أن يكون للبدن نفسان كما بينه الإمام في المباحث الشرقية وأن يكون عدد الهالكين مساوياً لعدد الكائنين والطوفات العامة تأبى هذا التساوي، على أنه يمكن أن يجاب بالفرق بين التناسخ وبين ما نحن فيه، وذلك أنا إذا كنا في أبدان أخرى وبقينا فيها سنين امتنع في مجرى العادة نسيان أحوالها، وأما أخذ الميثاق فإنما حصل في أسرع زمان فلم يبعد حصول النسيان فيه‏.‏ وبعضهم أجاب بأن النسيان وعدم التذكر هنا لبعد الزمان‏.‏ واعترض بأن أهل الآخرة يعرفون كثيراً من أحوال الدينا كما نطقت بذلك الآيات والأخبار اللهم إلا أن يقال‏:‏ إن ذلك خصوصية الدار، وقالوا ثانياً‏:‏ إن تلك الذرية المأخوذة من ظهر آدم عليه السلام لا بد أن يكون لكل واحد منها قدر من البنية حتى يحصل فيه العلم والفهم فمجموعها لا تحويه عرصة الدنيا فيمتنع حصوله في ظهر آدم ليؤخذ ثم يرد، وأجيب بأنه مبني على كون الحياة مشروطة بالبنية المخصوصة كما هو مذهب الخصوم، والبرهان قائم على بطلانه كما تقرر في الكلام، فجوز أن يخلق الله تعالى الحياة في جوهر فرد، وتلك الذرية المخرجة كانت كالذر وهو قريب من الجوهر، وكون المجموع لا تحويه عرصة الدنيا غير مسلم، وإن كان الأخذ في السماء قبل هبوط آدم عليه السلام فالدائرة واسعة، وإن كان إذ كان العرش على الماء فالدائرة أوسع، ولا مانع إذا كان في الأرض أن يكون اجتماع الذر متراكماً بينها وبين السماء وإنه لفضاء عظيم وإن صغرت قاعدته، وإن اعتبر أن الإنسان عبارة عن النفس الناطقة وأنها جوهر غير متحيز ولا حال فيه لم يحتج إلى الفضاء إلا أن فيه ما فه، وقالوا ثالثاً‏:‏ إنه لا فائدة فـ أخذ الميثاق لأنهم لا يصيرون بسببه مستحقين للثواب والعقاب على أنهم أدون حالاً من الأطفال والطفل لا يتوجه عليه التكليف فكيف يتوجه على الذر‏.‏

وأجيب‏:‏ بأن فائدة الأخذ غير منحصرة في الاستحقاق المذكور بل يجوز أن تكون إظهار كمال القدرة لمن حضر من الملائكة أو إقامة الحجة يوم القيامة كما يقتضيه قول البعض في الآية، وكونهم إذ ذاك أدون حالاً من الأطفال في حز البطلان كما لا يخفى على من هو أدون حالاً من الأطفال، وقالوا رابعاً‏:‏ إنه سبحانه وتعالى قال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 12‏]‏ وقال جل وعلا‏:‏ ‏{‏فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 5، 6‏]‏ وكون أولئك الذر أناسى ينافي كون الإنسان مخلوقاً مما ذكر‏.‏

وأجيب بأن الإنسان في هذه النشأة مخلوق من ذلك ولا يلزم منه أن يكون في تلك النشأة كذلك على أن الله تعالى لا يعجزه شيء، وبالجملة ينبغي للمؤمن أن يصدق بذلك الأخذ فقد نطقت به الأخبار الصادرة من منبع الرسالة، ولا يلتفت إلى قول من قال‏:‏ إنها متروكة العمل لكونها من الآحاد فإن ذلك يؤدي إلى سد باب كبير من الفتوحات الغيبية ويحرم قائله من عظيم المنح الإلهية‏.‏ وقد روى البيهقي في المدخل عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال‏:‏ الذين لقيناهم كلهم يثبتون خبر واحد عن واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم ويجعلونه سنة حمد من تبعها وعيب من خالفها، وقال‏:‏ من خالف هذا المذهب كان عندنا مفارقاً لسبيل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل العلم بعدهم وكان من أهل الجهالة، وفي «جامع الأصول» عن رزين عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لأعرفن الرجل منكم يأتيه الأمر من أمري أنا أمرت به أو نهيت عنه وهو متكىء في أريكته فيقول‏:‏ ما ندري ما هذا عندنا كتاب الله تعالى وليس هذا فيه ‏"‏ الحديث، ولا ينبغي البحث عن كيفية ذلك فإنه من العلوم المسكوت عنها المحتاجة إلى كشف الغطاء وفيض العطاء‏.‏

ومن ذلك ما أخرجه الجندي في فضائل مكة‏.‏ وأبو الحسن القطان‏.‏ والحاكم‏.‏ والبيهقي في شعب الإيمان وضعفه عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ حججنا مع عمر رضي الله تعالى عنه فلما دخل الطواف استقبل الحجر فقال‏:‏ إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك ثم قبله فقال له علي كرم الله تعالى وجهه‏:‏ يا أمير المؤمنين إنه يضر وينفع قال‏:‏ بم‏؟‏ قال‏:‏ بكتاب الله عز وجل قال‏:‏ وأين ذلك من كتاب الله تعالى قال‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ‏}‏ الآية إلى قوله سبحانه‏:‏

‏{‏بلى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ وذلك أن الله عز شأنه خلق آدم عليه السلام ومسح على ظهره فأخرج ذريته فقررهم بأنه الرب وأنهم العبيد وأخذ عهودهم ومواثيقهم وكتب ذلك في رق وكان لهذا الحجر عينان ولسان فقال له‏:‏ افتح فاك ففتح فاه فألقمه ذلك الرق فقال‏:‏ اشهد لمن وافاك بالموافاة يوم القيامة وأني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «يؤتي يوم القيامة بالحجر الأسود وله لسان ذلق ليشهد لمن يستلمه بالتوحيد» فهو يا أمير المؤمنين يضر وينفع‏.‏ فقال عمر رضي الله تعالى عنه أعوذ بالله تعالى أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن‏.‏

قيل‏:‏ ومن هنا يعلم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الحجر يمين الله تعالى في أرضه» والكلام في ذلك شهر، هذا ومن الناس من ذكر أن الناس بعد أن قالوا‏:‏ بلى منهم من سجد سجدتين ومنهم من لم يسجد أصلاً ومنهم من سجد مع الأولين السجدة الأولى ولم يسجد الثانية ومنهم من عكس، فالصنف الأول هم الذين يعيشون مؤمنين ويموتون كذلك، والثاني هم الذين يعيشون كفاراً ويموتون كذلك‏.‏ والثالث هم الذين يعيشون مؤمنين ويموتون كفاراً، والرابع هم الذين يعيشون كفاراً ويموتون مؤمنين انتهى‏.‏ وهو كلام لم يشهد له كتاب ولا سنة فلا عول عليه، ومثله القول بأن بعضاً من القائلين بلى قد مكر منهم إذ ذاك حيث أظهر لهم إبليس في ذلك الجمع وظنوا أنه القائل‏:‏ ألست بربكم‏؟‏ فعنوه بالجواب وأولئك هم الأشقياء، وبعضاً تجلى لهم الرب سبحانه فعرفوه وأجابوه وأولئك هم السعداء، وهذا عندي من البطلان بمكان؛ والذي ينبغي اعتقاده أنهم كلهم وجهوا الجواب لرب الأرباب‏.‏ نعم ذهب البعض إلى أن البعض أجاب كرهاً واستدلوا له ببعض الآثار السالفة، وذهب أهل هذا القول إلى أن أطفال المشركين في النار، ومن قال‏:‏ إنهم في الجنة ذهب إلى أنهم أقروا عند أخذ الميثاق اختياراً فيدخلون الجنة بذلك الإقرار والله سبحانه أرحم الراحمين وإسناد القول في الآية على بعض الأقوال إلى ضمير الجمع إنما هو باعتبار وقوعه من البعض فإن وقوعه من الكل باطل بداهة، ومثل هذا واقع في الآيات كثيراً

تفسير الآية رقم ‏[‏174‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏174‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الايات‏}‏ أي ذلك التفصيل البليغ المستتبع للمنافع الجليلة نفصلها لا غير ذلك‏.‏

‏{‏وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ عما هم عليه من الإصرار على الباطل نفعل التفصيل المذكور، وقيل‏:‏ المعنى ولعلهم يرجعون إلى الميثاق الأول فيذكرونه ويعملون بمقتضاه نفعل ذلك، وأياً ما كان فالواو ابتدائية كالتي قبلها، وجوز أن تكون عاطفة على مقدر أي ليقفوا على ما فيها من المرغبات والزواجر، أو ليظهر الحق ولعلهم يرجعون، وقيل‏:‏ إنها سيف خطيب‏.‏

هذا ومن باب الإشارة‏:‏ قالوا‏:‏ ‏{‏وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية‏}‏ أي عن أهل قرية الجسد وهم الروح والقلب والنفس الأمارة وتوابعها ‏{‏التى كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر‏}‏ أي مشرفة على شاطىء بحر البشرية ‏{‏إِذْ يَعْدُونَ فِى السبت‏}‏ يتجاوزون حدود الله تعالى يوم يحرم عليهم تناول بعض الملاذ النفسانية والعادي من أولئك الأهل إنما هو النفس الأمارة فإنها في مواسم الطاعات والكف عن الشهوات كشهر رمضان مثلاً حريصة على تناول ما نهيت عنه والمرء حريص على ما منع ‏{‏إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ‏}‏ وهي الأمور التي نهوا عن تناولها ‏{‏يَوْمَ سَبْتِهِمْ‏}‏ الذي أمروا بتعظيمه شرعاً قريبة المأخذ ‏{‏وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ‏}‏ بأن لا يتهيأ لهم ما يريدونه ‏{‏كذلك نَبْلُوهُم‏}‏ نعاملهم معاملة من يختبرهم ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 163‏]‏ أي بسبب فسقهم المستمر طبعاً‏.‏

قال بعضهم‏:‏ ما كان ما قص الله تعالى إلا كحال الإسلاميين من أهل زماننا في اجتماع أنواع الحظوظ النفسانية من المطاعم والمشارب والملاهي والمناكح ظاهرة في الأسواق والمحافل في الأيام المعظمة كالأعياد والأوقات المباركة كأوقات زيارة مشاهد الصالحين المعلومة المشهورة بين الناس ‏{‏وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مّنْهُمْ‏}‏ وهي القلب وأتباعه للأمة الواعظة وهي الروح وأتباعها ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا‏}‏ وهم النفس الأمارة وقواها ‏{‏الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا‏}‏ على ‏{‏قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى ربكم‏}‏ أي نعظهم معذرة إليه تعالى وذلك أنا خلقنا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكرة فنريد أن نقضي ما علينا ليظهر أنا ما تغيرنا عن أوصافنا ‏{‏ولعلهم يتقون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 164‏]‏ لأنهم قابلون لذلك بحسب الفطرة فلا نيأس من تقواهم ‏{‏فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ‏}‏ لغلبة الشقوة عليهم ‏{‏أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء‏}‏ وهم الروح والقلب واتباعهما فإنهم كلهم نهوا عن ذلك إلا أن بعضهم مل وبعضهم لم يمل ‏{‏وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ‏}‏ أي شديد وهو عذاب حرمان قبول الفيض ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 165‏]‏ أي بسبب تماديهم على الخروج عن الطاعة ‏{‏فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ‏}‏ أي أبوا أن يتركوا ذلك ‏{‏قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 166‏]‏ أي جعلنا طباعهم كطباعهم وذلك فوق حرمان قبول الفيض ‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ‏}‏ أي اقسم ‏{‏لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة‏}‏ أي قيامتهم ‏{‏مَن يَسُومُهُمْ‏}‏ وهو التجلي الجلالي

‏{‏سُوء العذاب‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 167‏]‏ وهو عذاب القهر وذل اتباع الشهوات ‏{‏وقطعناهم‏}‏ أي فرقنا بني إسرائيل الروح ‏{‏فِى الارض‏}‏ أي أرض البدن ‏{‏أُمَمًا‏}‏ جماعات ‏{‏مّنْهُمُ الصالحون‏}‏ أي الكاملون في الصلاح كالعقل ‏{‏وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك‏}‏ فيه كالقلب ومن جعل القلب أكمل من العقل عكس الأمر ‏{‏وبلوناهم بالحسنات والسيئات‏}‏ تجليات الجمال والجلال ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 168‏]‏ بالفناء إلينا ‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ‏}‏ وهي النفس وقواها ‏{‏وَرِثُواْ الكتاب‏}‏ وهو ما ألهم الله تعالى العقل والقلب ‏{‏يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الادنى‏}‏ وهي الشهوات الدنية واللذات الفانية ويجعلون ما ورثوه ذريعة إلى أخذ ذلك ‏{‏وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا‏}‏ ولا بد لأنا واصلون كاملون وهذا حال كثير من متصوفة زماننا فإنهم يتهافتون على الشهوات تهافت الفراش على النار ويقولون‏:‏ إن ذلك لا يضرنا لأنا واصلون‏.‏

وحكي عن بعضهم أنه يأكل الحرام الصرف ويقول‏:‏ إن النفي والإثبات يدفع ضرره وهو خطأ فاحش وضلال بين أعاذنا الله تعالى وإياكم من ذلك‏.‏ وأعظم منه اعتقاد حل أكل مثل الميتة من غير عذر شرعي لأحدهم ويقول‏:‏ كل منا بحر والبحر لا ينجس ولا يدري هذا الضال أن من يعتقد ذلك أنجس من الكلب والخنزير‏.‏ ومنهم يحكي عن بعض الكاملين المكملين من أهل الله تعالى ما يؤيد به دعواه وهو كذب لا أصل له وحاشا ذلك الكامل مما نسب إليه حاشا ‏{‏وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ‏}‏ أي إنهم مصرون على هذا الفعل القبيح ‏{‏أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ الكتاب‏}‏ الوارد فيما ألهمه الله تعالى العقل والقلب ‏{‏أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق‏}‏ فكيف عدلوا عنه ‏{‏وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ‏}‏ مما فيه رشادهم ‏{‏والدار الاخرة‏}‏ المشتملة على اللذات الروحانية ‏{‏خير للذن يتقون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 169‏]‏ عرض هذا الأدنى ‏{‏والذين يُمَسّكُونَ بالكتاب‏}‏ أي يتمسكون بما ألهمه الله تعالى العقل والقلب من الحكم والمعارف ‏{‏والذين يُمَسّكُونَ‏}‏ ولم يألوا جهداً في الطاعة ‏{‏إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 170‏]‏ منهم وأجرهم متفاوت حسب تفاوت الصلاح حتى إنه ليصل إلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ‏{‏وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ‏}‏ وهو جبل الأمر الرباني والقهر الإلهي ‏{‏كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ‏}‏ غمامة عظيمة ‏{‏وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ‏}‏ إن لم يقبلوا أحكام الله سبحانه ‏{‏خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ‏}‏ بجد وعزيمة ‏{‏واذكروا مَا فِيهِ‏}‏ من الأسرار ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 171‏]‏ تنتظمون في سلك المتقين على اختلاف مراتب تقواهم‏.‏

والكلام على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ‏}‏ ربك الخ من هذا الباب يغني عنه ما ذكرناه خلال تفسيره من كلام أهل الله تعالى قدس الله تعالى أسرارهم خلا أنه ذكر بعضهم أن أول ذرة أجابت ببلى ذرة النبي صلى الله عليه وسلم وكذا هي أول مجيب من الأرض لما خاطب الله سبحانه السموات والأرض بقوله جل وعلا‏:‏

‏{‏ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏ وكانت من تربة الكعبة وهي أول ما خلق من الأرض ومنا دحيت كما جاء عن ابن عباس رض الله تعالى عنهما، وكان يقتضي ذلك أن يكون مدفنه صلى الله عليه وسلم بمكة حيث كانت تربته الشريفة منها، وقد رووا أن المرء يدفن حيث كانت تربته، ولكن قيل‏:‏ إن الماء لما تموج رمى الزبد إلى النواحي فوقعت درة ذرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يحاذي مدفنه الكريم بالمدينة، ويستفاد من هذا الكلام أنه عليه الصلاة والسلام هو الأصل في التكوين والكائنات تبع له صلى الله عليه وسلم قل‏:‏ ولكون ذرته أم الخليقة سمي أمياً، وذكر بعضهم أن الباء لكونه أول حرف فتحت الذرة به فمها حين تكلمت لم تزل الأطفال في هذه النشأة ينطقون به في أول أمرهم ولا بدع فكل مولود يولد على الفطرة، قيل‏:‏ ولعظم ما أودع الله سبحانه وتعالى في الباء من الأسرار افتتح الله تعالى به كتابه بل افتتح كل سورة به لتقدم البسملة المفتتحة به على كل سورة ما عدا التوبة وافتتاحها ببراءة وأول هذه اللفظة الباء أيضاً، ولكون الهمزة وتسمى ألفاً أول حرف قرع أسماعهم في ذلك المشهد كان أول الحروف لكنه لم يظهر في البسملة لسر أشرنا إليه أول الكتاب والله تعالى الهادي إلى صوب الصواب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏175‏]‏

‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ‏(‏175‏)‏‏}‏

‏{‏واتل عَلَيْهِمْ‏}‏ تعطف على المضمر العامل في ‏{‏إِذْ أَخَذَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ وارد على نمط الأنباء عن الحور بعد الكور، أي واقرأ على اليهود أو على قومك كما في الخازن ‏{‏نَبَأَ الذى ءاتيناه ءاياتنا‏}‏ أي خبره الذي له شأن وخطر، وهو كما روى ابن مردويه وغيره من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بلعم بن باعوراء وفي لفظ بلعام بن باعر وكان من الكنعانيين، وفي رواية عنه‏.‏ وعن أبي طلحة أنه من بني إسرائل، وأخرج ابن عساكر عن ابن شهاب أنه أمية بن أبي الصلت‏.‏

وأخرج أبو الشخ عن الحبر أنه رجل من بني إسرائيل له زوجة تدعى البسوس، وفي رواية أخرى أخرجها ابن أبي حاتم عنه أنه النعمان بن صيفي الراهب، وكونه إسرائيلياً أنسب بالمقام كما لا يخفى، والأشهر أنه بلعام أو بلعم وكان قد أوتي علماً ببعض كتب الله تعالى، ودون ذلك في الشهرة أنه أمية وكان قد قرأ بعض الكتب ‏{‏فانسلخ مِنْهَا‏}‏ أي من تلك الآيات انسلاخ الجلد من الشاة، والمراد أنه خرج منها بالكلية بأن كفر بها ونبذها وراء ظهره، وحقيقة السلخ كشط الجلد وإزالته بالكلية عن المسلوخ عنه، ويقال لكل شيء فارق شيئاً على أتم وجه انسلخ منه، وف التعبير به ما لا يخفى من المبالغة، واستأنس بعضهم بهذه الآية لأن العلم لا ينزع من الرجال حيث قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فانسلخ مِنْهَا‏}‏ ولم يقل عز شأنه فانسلخت منه ‏{‏فَأَتْبَعَهُ الشيطان‏}‏ أي لحقه وأدركه كما قال الراغب بعد أن لم يكن مدركاً له لسبقه بالإيمان والطاعة، وقال الجوهري يقال‏:‏ أتبعت القوم إذا سبقوك فلحقتهم وكأن المعنى جعلتهم تابعين لي بعد ما كنت تابعاً لهم، وفيه حينئذٍ مبالغة في اللحوق إذ جعل كأنه إمام للشيطان والشيطان يتبعه وهو من الذم بمكان، ونظيره في ذلك قوله‏:‏

وكان فتى من جند إبليس فارتقى *** به الحال حتى صار إبليس من جنده

وصرح بعضهم بأن معناه استتبعه أي جعله تابعاً له، وهو على ما قيل متعد لمفعولين حذف ثانيهما أي أتبعه خطواته‏.‏ وقرىء ‏{‏فَأَتْبَعَهُ‏}‏ من الافتعال ‏{‏فَكَانَ مِنَ الغاوين‏}‏ فصار من زمرة الضالين الراسخين في الغواية بعد أن كان مهتدياً، وكيفية ذلك على القول بأنه بلعام أن موسى عليه السلام لما قصد حرب الجبارين أتى قوم بلعام إليه وكان عنده اسم الله تعالى الأعظم فقالوا له‏:‏ إن موسى عليه الصلاة والسلام رجل حديد وإن معه جنوداً كثيرة وإنه قد جاء ليخرجنا من أرضنا فادع الله تعالى أن يرده عنا، فقال‏:‏ ويلكم نبي الله تعالى ومعه الملائكة والمؤمنون فكيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله تعالى ما أعلم وإني إن فعلت ذهبت دنياي وآخرتي فألحوا عليه، فقال‏:‏ حتى أوامر ربي فأتى في المنام وقيل له‏:‏ لا تفعل فأخبر قومه فأهدوا له هدية فقبلها ولم يزالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه فجعل يدعو على موسى عليه الصلاة والسلام وقومه إلا أن الله تعالى جعل يصرف لسانه إلى الدعاء على قومه نفسه، فقالوا له‏:‏ يا بلعام أتدري ما تصنع إنك تدعو علينا، فقال‏:‏ هذا أمر قد غلب الله تعالى عليه فاندلع لسانه ووقع على صدره، فقال‏:‏ يا قوم قد ذهبت مني الدنيا والآخرة ولم يبق إلا المكر والحيلة جملوا النساء وأرسلوهن وأمروهن أن لا يمنعن أنفسهن فإن القوم سفر وإن الله سبحانه وتعالى يبغض الزنا وإن هم وقعوا فيه هلكوا ففعلوا ذلك فافتتن زمرى بن شلوم رأس سبط شمعون بن يعقون بامرأة منهن تسمى كستى بنت صور فنهاه موسى عليه السلام عن الفاحشة فأبى وأدخلها قبته وزنا بها فوقع فيهم الطاعون حتى هلك منهم سبعون ألفاً ولم يرتفع حتى قتلهما فنحاص بن العيزار بن هارون وكان غائباً أول الأمر‏.‏

وعن مقاتل أن ملك البلقاء قال له‏:‏ ادع الله تعالى على موسى عليه السلام، فقال‏:‏ إنه من أهل ديني ولا أدعو عليه فنصب له خشبة ليصلبه عليها فدعا بالاسم الأعظم أن لا يدخل الله تعالى موسى عليه السلام المدينة فاستجيب له ووقع بنو إسرائيل في التيه، فقال موسى‏:‏ يا رب بأي ذنب هذا‏؟‏ فقال سبحانه وتعالى‏:‏ بدعاء بلعام، فقال‏:‏ رب كما سمعت دعاؤه علي فاسمع دعائي عليه فدعا الله جل شأنه أن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان فنزع الله تعالى عنه المعرفة وسلخه منها فخرجت من صدره كحمامة بيضاء‏.‏ ورد هذا بأن التيه كان روحاً وراحة لموسى عليه السلام وإنما عذب به بنو إسرائيل وقد كان ذلك بدعائه عليه السلام، على أن في الدعاء بسلب الإيمان مقالاف، وأنا أعجب لم لم يدع هذا الشقي بالاسم الأعظم الذي كان يعلمه على ملك البلقاء ليخلص من شره‏؟‏ ودعا على موسى عليه السلام ما هي إلا جهالة سوداء، وجاء في كلام أبي المعتمر أنه كان قد أوتي النبوة، ويرده أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يجوز عليهم الكفر عند أحد من العقلاء وكأن مراده من النبوة ما أوتيه من الآات، وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من حفظ القرآن فقد طوى النبوة بين جنبيه»‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن مالك بن دينار أنه كان من علماء بني إسرائيل وكان موسى عليه السلام يقدمه في الشدائد ويكرهه وينعم عليه فبعثه إلى ملك مدين دعوهم إلى الله تعالى وكان مجاب الدعوة فترك دين موسى عليه السلام واتبع دين الملك، وهذه الرواية عندي أولى مما تقدم بالقبول، وأما على القول بأنه أمية فهو أنه كان قد قرأ الكتب القديمة وعلم أن الله تعالى مرسل رسولاً فرجاً أن يكون هو ذلك الرسول، فاتفق أن خرج إلى البحرين وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام هناك ثماني سنين ثم قدم فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة من أصحابه فدعاه إلى الإسلام، وقرأ عليه سورة يس حتى إذا فرغ منها وثب أمية يجر رجليه فتبعته قريش تقول‏:‏ ما تقول يا أمية‏؟‏ فقال‏:‏ أشهد أنه على الحق قالوا‏:‏ فهل نتبعه‏؟‏ قال‏:‏ حتى أنظر في أمره فخرج إلى الشام وقدم بعد وقعة بدر يريد أن يسلم فلما أخبر بها ترك الإسلام وقال‏:‏ لو كان نبياً ما قتل ذوي قرابته فذهب إلى الطائف ومات به فأتت أخته الفارعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن وفاته فذكرت له أنه أنشد عند موته‏:‏

كل عيش وإن تطاول دهرا *** صائر مرة إلى أن يزولا

ليتني كنت قبل ما قد بدا لي *** في قلال الجبال أرعى الوعولا

إن يوم الحساب يوم عظيم *** شاب فيه الصغير يوماً ثقيلاً

ثم قال لها عليه الصلاة والسلام‏:‏ أنشديني من شعر أخيك فأنشدته‏:‏

لك الحمد والنعماء والفضل ربنا *** ولا شيء أعلى منك جداً وأمجد

مليك على عرض السماء مهيمن *** لعزته تعنو الوجوه وتسجد

من قصدة طويلة أتت على آخرها، ثم أنشدته قصيدته التي يقول فيها‏:‏

وقف الناس للحساب جميعا *** فشقي معذب وسعيد

والتي فيها‏:‏

عند ذي العرش يعرضون عله *** يعلم الجهر والسرار الخفيا

يوم يأتي الرحمن وهو رحيم *** إنه كان وعده مأتيا

رب إن تعف فالمعافاة ظني *** أو تعاقب فلم تعاقب بريا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن أخاك آمن شعره وكفر قلبه، وأنزل الله تعالى الآية‏.‏ وأما على القول بأنه النعمان فهو أنه كان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح فقدم المدينة فقال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما هذا الذي جئت به‏؟‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام‏.‏ قال‏:‏ فأنا عليها‏.‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ لست عليها ولكنك أدخلت فيها ما ليس منها‏.‏ فقال‏:‏ أمات الله تعالى الكاذب منا طريداً وحيداً، ثم خرج إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا السلاح، ثم أتى قيصر وطلب منه جنداً ليخرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة فمات بالشام طريداً وحيداً‏.‏

وأما على القول بأنه زوج البسوس، فقد أخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه رجل أعطى ثلاث دعوات مستجابات، وكانت له امرأة تدعى البسوس له منها ولد فقالت‏:‏ اجعل لي منها واحدة‏.‏

قال‏:‏ فما الذي تريدين‏؟‏ قالت‏:‏ ادع الله تعالى أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا الله تعالى فجعلها أجمل امرأة فيهم، فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه وأرادت شيئاً آخر فدعا الله تعالى أن يجعلها كلبة فصارت كلبة فذهبت دعوتان، فجاء بنوها فقالوا‏:‏ ليس بنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها فادع الله تعالى أن يردها إلى الحال التي كانت عليها فدعا فعادت كما كانت فذهبت الدعوات الثلاث فيها، ومن هنا يقال‏:‏ أشأم من البسوس، وفي الخازن أن البسوس اسم لذلك الرجل، وليس بشيء، وهذه الرواية لا يساعد عليها نظم القرآن الكريم كما لا يخفى، والذي نعرفه أن البسوس التي يضرب بها المثل هي بنت منقذ التميمية خالة جساس بن مرة بن ذهل الشيباني قاتل كليب، وفي قصتها طول وقد ذكرها الميداني وغيره‏.‏

وعن الحسن‏.‏ وابن كيسان أن المراد بهذا الذي أوتي الآيات فانسلخ منها منافقو أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ولم يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم إيماناً صحيحاً، ويبعد ذلك إفراد الموصول وعن قتادة أن هذا مثل لمن عرض عليه الهدى واستعد له فأعرض عنه وأبى أن يقبله، وفيه بعد ومخالفة للروايات المشهورة، وأوهن الأقوال عندي قول أبي مسلم‏:‏ إن المراد به فرعون والمراد بالآيات الحجج والمعجزات الدالة على صدق موسى عليه السلام، وكأنه قيل‏:‏ واتل عليهم نبأ فرعون إذ آتيناه الحجج الدالة على صدق موسى عليه السلام فلم يقبلها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏176‏]‏

‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏176‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لرفعناه بِهَا‏}‏ كلام مستأنف مسوق لبيان ما ذكر من الانسلاخ وما يتبعه، وضمير ‏{‏رفعناه‏}‏ للذي وضمير ‏{‏ووصى بِهَا‏}‏ للآيات، والباء سببية، ومفعول المشيئة محذوف هو مضمون الجزاء كما هو القاعدة المستمرة، أي لو شئنا رفعه لرفعناه إلى منازل الأبرار بسبب تلك الآيات والعمل بما فيها؛ وقيل‏:‏ الضمير المنصوب للكفر المفهوم من الكلام السابق، أي لو شئنا لأزلنا الكفر بالآيات، فالرفع من قولهم‏:‏ رفع الظلم عنا وهو خلاف الظاهر جداً وإن روي عن مجاهد، ومثله بل أبعد وأبعد ما نقل عن البلخي‏.‏ والزجاج من إرجاع ضمير بها للمعصية‏.‏

‏{‏ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الارض‏}‏ أي ركن إلى الدنيا ومال إليها، وبذلك فسره السدي‏.‏ وابن جبير، وأصل الإخلاد اللزوم للمكان من الخلود، ولما في ذلك من الميل فسر به، وتفسير الأرض بالدنيا لأنها حاوة لملاذها وما يطلب منها‏.‏

وقال الراغب‏:‏ المعنى ركن إلى الأرض ظاناً أنه مخلد فيها، وفسر غير واحد الأرض بالسفالة ‏{‏واتبع‏}‏ في إيثار الدنيا وأعرض عن مقتضى تلك الآيات الجليلة، وفي تعليق الرفع بالمشيئة ثم الاستدراك عنه بفعل العبد تنبيه كما قال ناصر الدين‏:‏ على أن المشيئة سبب لفعله المؤدى إلى رفعه وأن عدمه دليل عدمها دلالة انتفاء المسبب على انتفاء سببه، وأن السبب الحقيقي هو المشيئة؛ وأن ما نشاهده من الأسباب وسائط معتبرة فـ حصول المسبب من حيث إن المشيئة تعلقت به كذلك، وكان من حقه كما قال أن يقول‏:‏ ولكنه أعرض عنها، فأوقع موقعه ما ذكر مبالغة لأنه كناية عنه والكناية أبلغ من التصريح، وتنبيهاً على ما حمله عليه وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وما ألطف نسبة إتيان الآيات والرفع إليه تعالى ونسبة الانسلاخ والإخلاد إلى العبد مع أن الكل من الله تعالى إذ فه من تعليم العباد حسن الأدب ما فيه، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك ‏"‏‏.‏ والزمخشري لما رأى أن ظاهر الآية مخالف لمذهبه دال على وقوع الكائنات بمشيئة الله تعالى أخلد إلى التأويل، فجعل المشيئة مجازاً عن سببها وهو لزوم العمل بالآات بقرينة الاستدراك بما هو فعل العبد المقابل للزوم الآيات وهو الإخلاد إلى الأرض، أي ولو لزمها لرفعناه وهو من قبيل نزع الخف قبل الوصول إلى الماء والمصير إلى المجاز قبل أوانه لجواز أن يكون ‏{‏لَوْ شِئْنَا‏}‏ باقياً على حقيقته و‏{‏أَخْلَدَ إِلَى الارض‏}‏ مجازاً عن سببه الذي هو عدم مشيئة الرفع بل الإخلاد، ولم عتمد على عكازته لفوت المقابلة حينئذٍ، وفي «الكشف» أن حمل المشيئة على ما هي مسببة عنه في زعمه ليس أولى من حمل الإخلاد على ما هو مسبب عنه في زعمنا كيف وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شِئْنَا‏}‏ استدراك لقوله‏:‏

‏{‏فانسلخ مِنْهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 175‏]‏ على أن الإخلاد هو الميل، والإرادة والميل ونحوهما من المعاني ليست من أفعال العباد بالاتفاق نعم الجزم المقارن من فعل القلب فعل القلب عندهم، ثم قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏مَن يَهْدِ الله‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 178‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ذَرَأْنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 179‏]‏ يؤكدان ما عليه أهل السنة أبلغ تأكيد ولكن الزمخشري لا يعبأ بذلك ‏{‏فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب‏}‏ وهو الحيوان المعروف وجمعه أكلب وكلاب وكلابات كما قال ابن سيده وكليب كعبيد وهو قليل ويجمع أكلب على أكالب؛ وبه يضرب المثل في الخساسة لأنه يأكل العذرة ويرجع في قيئه والجيفة أحب إليه من اللحم الغريض نعم هو أحسن من الرجل السوء، ومما ينسب إلى الشافعي رضي الله تعالى عنه‏:‏

ليت الكلاب لنا كانت مجاورة *** وليتنا ما نرى ممن نرى أحداً

إن الكلاب لتهدأ في مرابضها *** والناس ليس بهاد شرهم أبداً

وفي شعب الإيمان للبيهقي عن الفقيه منصور أنه كان نشد لنفسه‏:‏

الكلب أحسن عشرة *** وهو النهاية في الخساسة

ممن ينازع في الريا *** سة قبل أوقات الرياسة

والمثل بمعنى الصفة كما قال غير واحد فصفته كصفة الكلب، وقيل المراد أنه كالكلب في الخسة ‏{‏إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ‏}‏ أي شددت عليه وطردته ‏{‏يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ‏}‏ على حاله ‏{‏يَلْهَثْ‏}‏ أي أنه دائم اللهث على كل حال، واللهث ادلاع اللسان بالنفس الشديد وذلك طبع في الكلب لا يقدر على نغص الهواء المتسخن وجلب الهواء البارد بسهولة لضعف قلبه وانقطاع فؤاده بخلاف سائر الحيوانات فإنها لا تحتاج إلى النفس الشديد ولا يلحقها الكرب والمضايقة إلا عند التعب والإعياء، وإيثار الجملة الاسمية على الفعلية بأن يقال‏:‏ فصار مثله كمثل الخ للإيذان بدوام اتصافه بتلك الحالة الخسيسة وكمال استمراره عليها، والخطاب في فعلي الشرط لكل أحد ممن له حظ من الخطاب فإنه أدخل في إشاعة فظاعة حاله، والجملتان الشرطيتان قيل لا محل لهما من الإعراب لأنهما تفصيل لما أجمل في المثل وتفسير لما أبهم فيه ببيان وجه الشبه على منهاج قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 59‏]‏ أثر قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 59‏]‏ وقيل‏:‏ إنهما فـ محل النصب على الحالية من الكلب بناءً على تحولهما إلى معنى التسوية كما تحول الاستفهام إلى ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6‏]‏ كأنه قيل لاهثاً في الحالين، والجملة الشرطة كما قدمنا تقع حالاً مطلقاً، وقال صاحب الضوء‏:‏ إنها لا تكاد تقع كذلك بتمامها بل إذا أريد وقوعها حالاً جعلت خبراً عن ذي الحال نحو جاءني زيد وهو أن تسأله يعطك فتجعل جملة اسمية مع الواو لأن الشرط لصدارته لا يكاد يرتبط بما قبله إلا أن يكون هناك فضل قوة‏.‏

نعم جوز إذا أخرجتها عن حقيقتها سواء عطف عليها النقيض وحينئذٍ يجب ترك الواو كما فيما نحن فيه أو لم يعطف وحينئذٍ يجب الواو لئلا يحصل الالتباس بالشرط الحقيقي نحو آتيك وإن لم تأتني، والتشبيه قيل من تشبيه المفرد بالمفرد، وقيل وعليه كثير من المحققين أنه تشبيه للهيئة المنتزعة مما عراه بعد الانسلاخ من سوء الحال واضطرام القلب ودوام القلق والاضطراب وعدم الاستراحة بحال من الأحوال بالهيئة المنتزعة مما ذكر فـ حال الكلب، وجاء وقد أشرنا إليه سابقاً أن بلعام لما دعا على موسى عليه السلام خرج لسانه فتدلى على صدره وجعل يلهث كالكلب إلى أن هلك فوجه الشبه إما عقلي أو حسي ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى وصف الكلب أو المنسلخ من الآيات وما فيه من الإيذان بالبعد لما مر غير مرة‏.‏

‏{‏مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ باياتنا‏}‏ يريد كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أهل مكة كانوا يتمنون هادياً يهديهم وداعياً يدعوهم إلى طاعة الله تعالى ثم لما جاءهم من لا يشكون في صدقه وأمانته كذبوه وأعرضوا عن الآيات ولم يؤمنوا بها أو اليهود كما قال غير واحد حيث قرأوا نعت النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة وذكر القرآن المعجز وما فيه فصدقوه وبشروا الناس باقتراب مبعثه وكانوا يستفتحون به فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فانسلخوا من حكم التوراة أو الأعم من هؤلاء وهؤلاء من كل من اتصف بهذا العنوان كما في الخازن وبه أقول، ويدخل اليهود في ذلك دخولاً أولياً ‏{‏فاقصص القصص‏}‏ القصص مصدر سمي به المفعول كالسلب، واللام فيه للعهد، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي إذا تحقق أن المثل المذكور مثل هؤلاء المكذبين فاقصص ذلك عليهم ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ فينزجرون عما هم عليه من الكفر والضلال، والجملة في موضع الحال من ضمير المخاطب أو في موضع المفعول له أي فاقصص راجياً لتفكرهم أو رجاءاً لتفكرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏177‏]‏

‏{‏سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ‏(‏177‏)‏‏}‏

‏{‏سَاء مَثَلاً‏}‏ استئناف مسوق لبيان كمال قبح المكذبين بعد البيان السابق، وساء بمعنى بئس وفاعلها مضمر ومثلاً تمييز مفسر له، ويستغني بتذكير التمييز وجمعه وغيرهما عن فعل ذلك بالضمير، وأصلها التعدي لواحد، والمخصوص بالذم قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏القوم الذين كَذَّبُواْ باياتنا‏}‏ وحيث وجب صدق الفاعل والتمييز والمخصوص على شيء واحد والمثل مغاير للقوم لزم تقدير محذوف من المخصوص وهو الظاهر أو التمييز أي ساء مثلاً مثل القوم أو ساء أهل مثل القوم‏.‏

وفي الحواشي الشهابية أنه قرىء بإضافة ‏{‏مَثَلُ‏}‏ بفتحتين و‏{‏مَثَلُ‏}‏ بكسر فسكون للقوم ورفعه فساء للتعجب وتقديرها على فعل بالضم كقضو الرجل و‏{‏مَثَلُ القوم‏}‏ فاعل أي ما أسوأهم، والموصول في محل جر صفة للقوم أو هي بمعنى بئس ‏{‏وَمَثَلُ‏}‏ فاعل والموصول هو المخصوص في محل رفع بتقدير مضاف أي مثل الذين الخ‏.‏

وقدر أبو حيان في هذه القراءة تمييزاً، ورده السمين بأنه لا يحتاج إلى التمييز إذا كان الفاعل ظاهراً حتى جعلوا الجمع بينهما ضرورة، وفيه ثلاثة مذاهب المنع مطلقاً والجواز كذلك والتفصيل فإن كان مغايراً جاز نحو نعم الرجل شجاعاً زيد وإلا امتنع، وبعضهم يجعل المخصوص محذوفاً وفي كونه ما هو خلاف وإعادة القوم موصوفاً بالموصول مع كفاية الضمير بأن يقال ساء مثلاً مثلهم للإيذان بأن مدار السوء ما في حيز الصلة وليربط قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ‏}‏ به فإنه إما معطوف على كذبوا داخل معه في حكم الصلة بمعنى جمعوا بين أمرين قبيحين التكذيب وظلمهم أنفسهم خاصة أو منقطع عنه بمعنى وما ظلموا إلا أنفسهم فإن وبالها لا يتخطاها، وأياً ما كان ففي ذلك لمح إلى أن تكذيبهم بالآيات متضمن للظلم بها وأن ذلك أيضاً معتبر في القصر المستفاد من التقديم، وصرح الطيبي والقطب وغيرهما أن الجملة على تقدير الانقطاع تذييل وتأكيد للجملة التي قبلها، ويشعر كلام بعضهم أن تقديم المفعول على الوجه الأول لرعاية الفاصلة وعلى الوجه الثاني للإشارة إلى التخصيص وأن سبب ظلمهم أنفسهم هو التكذيب، وفيه خفاء كما لا يخفى، هذا ثم أن هذه الآيات مما تري علماء السوء بثالثة الأثافي، وقد ذكر مولانا الطيبي طيب الله ثراه أن من تفكر في هذا المثل وسائر الأمثال المضروبة في التنزيل في حق المشركين والأصنام من بيت العنكبوت والذباب تحقق له أن علماء السوء أسوأ وأقبح من ذلك فما أنعاه من مثل عليهم وما هم فييه من التهالك في الدنيا مالها وجاهها والركون إلى لذاتها وشهواتها من متابعة النفس الأمارة وإرخاء زمامها في مرامها عافانا الله تعالى والمسلمين من ذلك‏.‏

ونقل عن مولانا شيخ الإسلام شهاب الدين السهروردي أنه كتب إلى الإمام فخر الدين الرازي تغمدهما الله تعالى برضوانه من تعين في الزمان لنشر العلم عظمت نعمة الله تعالى عليه فينبغي للمتيقظين الحذاق من أرباب الديانات أن يمدوه بالدعاء الصالح ليصفي الله تعالى مورد علمه بحقائق التقوى ومصدره من شوائب الهوى إذ قطرة من الهوى تكدر بحراً من العلم ونوازع الهوى المركوز في النفوس المستصحبة إياه من محتدها من العالم السفلي إذا شابت العلم حطته من أوجه وإذا صفت مصادر العلم وموارده من الهوى أمدته كلمات الله تعالى التي ينفد البحر دون نفادها ويبقى العلم على كمال قوته، وهذه رتبة الراسخين في العلم لا المترسمين به وهم ورثة الأنبياء عليهم السلام كر عملهم على علمهم وتناوب العلم والعمل فيهم حتى صفت أعمالهم ولطفت وصارت مسامرات سرية ومحاورات روحية وتشكلت الأعمال بالعلوم لكان لطافتها وتشكلت العلوم بالأعمال لقوة فعلها وسرايتها إلى الاستعدادات، وفي اتباع الهوى إخلاد إلى الأرض قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لرفعناه بِهَا ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الارض واتبع هَوَاهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 176‏]‏ فتطهير نور الفكرة عن رذائل التخيلات والارتهان بالموهومات التي أورثت العقول الصغار والمداهنة للنفوس القاصرة هو من شأن البالغين من الرجال فتصحب نفوسهم الطاهرة الملأ الأعلى فتسرح في ميادين القدس، فالنزاهة النزاهة من محنة حطام الدنيا والفرار الفرار من استحلاء نظر الخلق وعقائدهم فتلك مصارع الأدوان، وطالب الرفيق الأعلى مكلم محدث، والتعريفات الإلهية واردة عليه لمكان علمه بصورة الابتلاء واستئصاله شأفة الابتلاء بصدق الالتجاء وكثرة ولوجه في حريم القرب الإلهي وانغماسه مع الأنفاس في بحار عين اليقين وغسله نفث دلائل البرهان بنور العيان فالبرهان للأفكار لا للأسرار إلى آخر ما قال، ويا لها من موعظة حكيم ونصيحة حميم نسأل الله تعالى أن يهدينا لما أشارت إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏178‏]‏

‏{‏مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏178‏)‏‏}‏

‏{‏مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدى وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون‏}‏ تذييل وتأكيد لما تضمنته القصة السابقة على ما يشير إليه كلام بعضهم‏.‏ وقال آخر‏:‏ إنه تعالى لما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقص على أولئك الضالين قصص أخيهم ليتفكروا ويتركوا ما هم عليه عقب ذلك بتحقيق أن الهداية والضلالة من جهته سبحانه وتعالى وإنما العظة والتذكير من قبيل الوسائط العادية في حصول الاهتداء لكونها دواعي إلى صرف المكلف اختياره نحو تحصيله حسبما نيط به خلق الله تعالى إياه، والمراد بهذه الهداية ما يوجب الاهتداء قطعاً لا لأن حقيقتها الدلالة الموصلة إلى البغية كما يوهمه كلام بعض الأصحاب بل لأنها الفرد الكامل من حقيقة الهداية التي هي الدلالة إلى ما يوصل لإسنادها إلى الله تعالى وتفريع الاهتداء عليها ومقابلتها بالضلال وما معه ولا يخفى أن الهداية بهذا المعنى يلزمها الاهتداء فيكون الإخبار باهتداء من هداه الله تعالى على ما قيل على حد الإخبار في شعري شعري وهو يفيد تعظيم شأن الاهتداء وأنه في نفسه كمال جسيم ونفع عظيم وأنه كاف في نيل كل شرف في الأولى والعقبى‏.‏

واختار بعض المحققين أنه ليس المقصود مجرد الإخبار بما ذكر ليتوهم عدم الإفادة بحسب الظاهر ويصار إلى توجيهه بذلك بل هو قصر الاهتداء على من هداه الله تعالى حسبما يقضي به تعريف الخبر، فالمعنى من يخلق فيه الاهتداء فهو المهتدي لا غير كائناً من كان ولا يخلو عن حسن إلا أنه قد يقال‏:‏ إن الأول أوفق بالمقابل، وإفراد المهتدي لا غير كائناً من كان ولا يخلو عن حسن إلا أنه قد يقال‏:‏ إن الأول أوفق بالمقابل، وإفراد المهتدي رعاية للفظ ‏{‏مِنْ‏}‏، وجمع الخاسرين رعاية لمعناها للإيذان بأن الحق واحد وطرق الضلال متشعبة، وفي الآية تصريح بأن الهدى والضلال من الله تعالى فسبحان من أضل المعتزلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏179‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ‏(‏179‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ ذَرَأْنَا‏}‏ كلام مستأنف مقرر لمضمون ما قبله بطريق التذييل، والذرأ بالهمزة الخلق وبذلك فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره أي والله تعالى لقد خلقنا ‏{‏لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الجن والإنس‏}‏ وهم المصرون على الكفر في علمه سبحانه وتعالى، واللام للعاقبة عند الكثير كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى الحياة الدنيا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 88‏]‏ وقول الشاعر‏:‏

له ملك ينادي كل يوم *** لدوا للموت وابنوا للخراب

وفي «الكشاف» أنهم جعلوا لإغراقهم في الكفر وشدة شكائمهم فيه وأنه لا يتأتى منهم إلا أفعال أهل النار مخلوقين للنار دلالة على توغلهم في الموجبات وتمكنهم فيما يؤهلهم لدخولها، وأشار إلى أن ذلك تذييل لقصة اليهود بعد ما عد من قبائحهم تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قيل‏:‏ إنهم من الذين لا ينجع فيهم الإنذار فدعهم واشتغل بأمر نفسك ومن هو على دينك في لزوم التوحيد، والآية على ما قال من باب الكناية الإيمائية عند القطب قدس سره ويفهم كلامه أن الذي دعا الزمخشري إلى ذلك لزوم كون الكفر مراداً لله تعالى إذا أريد الظاهر وهو خلاف مذهبه، وأنت تعلم أن الكثير من أهل السنة تأولوا الآية بحمل اللام على ما علمت لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏ فإن تعليل الخلق بالعباد يأبى تعليله بجهنم ودخولها، نعم ذهب ابن عطية منا إلى الحمل على الظاهر وكون اللام للتعليل، وادعى أناس أن التأويل مخالف للأحاديث الواردة في الباب كبعض الأحاديث السابقة في آية أخذ الميثاق، وما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن قتادة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ إن الله تعالى خلق آدم عليه السلام ثم أخذ الخلق من ظهره فقال هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي قال قائل‏:‏ فعلى ماذا العمل‏؟‏ قال‏:‏ على موافقة القدر ‏"‏ وما أخرجه محيي السنة عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ أدرك النبي صلى الله عليه وسلم جنازة صبي من صبيان الأنصار فقلت‏:‏ يا رسول الله صلى الله عليه وسلم طوبى له عصفور من عصافير الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ وما يدريك إن الله تعالى خلق الجنة وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم ‏"‏ إلى غير ذلك‏.‏

وإلى هذا ذهب الطيبي وأيده بما أيده وادعى أن فائدة القسم التنبيه على قلع شبه من عسى أن يتصدى لتأويل الآية وتحريف النص القاطع، ونقل عن الإمام أن الآية حجة لصحة مذهب أهل السنة في مسألة خلق الأعمال إرادة الكائنات لأنه سبحانه وتعالى صرح بأنه جل وعلا خلق كثيراً من الجن والإنس لجهنم ولا مزيد لبيان الله تعالى، ولا يخفى أن الحمل على الظاهر مخالف لظاهر الآية التي ذكرناها، وفي الكتاب الكريم كثير مما يوافقها على أن التعليل الحقيقي لأفعاله تعالى يمنع عنه في المشهور الإمام الأشعري وأصحابه‏.‏

وقال بعض الجلة‏:‏ المراد بالكثير الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة ولكن لا بطريق الجبر من غير أن يكون من قبلهم ما يؤدي إلى ذلك بل لعلمه سبحانه وتعالى بأنهم لا يصرفون اختيارهم نحو الحق أبداً بل يصرون على الباطل من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم من الآيات والنذر، فبهذا الاعتبار جعل خلقهم مغياً بجهنم كما أن جمع الفريقين باعتبار استعدادهم الكامل الفطري للعبادة وتمكنهم التام منها جعل خلقهم مغياً بها كما نطق به قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏ انتهى، وعندي أنه لا محيص من التأويل في هذا المقام فتدبر ولا تغفل، ثم إن الجار الأول متعلق بما عنده وتقديمه على المفعول الصريح لما في توابعه من نوع طول يؤدي توسيطه بما بينهما وتأخيرهم عنهما إلى الإخلال بجزالة النظم الجليل، والجار الثاني متعلق بمحذوف وقع صفة لكثير، وتقديم الجن لأنهم أعرف من الإنس في الاتصاف بما ذكر من الصفات وأكثر عدداً وأقدم خلقاً ولا يشكل أنهم خلقوا من النار فلا يشق عليهم دخولها ولا يضرهم شيئاً لأنا نقول في دفع ذلك على علاته خلقهم من النار بمعنى أن الغالب عليهم الجزء الناري لا يأبى تضررهم بها فإن الإنس خلقوا من الطين ويتضررون به، ويوضح ذلك أن حقيقة النار لم تبق فيهم على ما هي عليه قبل خلقهم منها كما أن حقيقة الطين لم تبق في الإنس على ما هي عليه قبل خلقهم منها على أن المخلوق من نار هو البدن والمعذب هو الروح وليست مخلوقة منها وعذاب الروح في قالب ناري معقول كعذابها في قالب طيني، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُمْ قُلُوبٌ‏}‏ في محل النصب على أنه صفة أخرى لكثير، وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا‏}‏ في محل الرفع على أنه صفة لقلوب مبينة لكونها غير معهودة مخالفة لسائر أفراد الجنس فاقدة لما ينبغي أن يكون أو هي مؤكدة لما يفيده تنكيرها وإبهامها من كونها كذلك، وأريد بالقلب اللطيفة الإنسانية، وبالفقه الفهم وهو المعنى اللغوي له، يقال‏:‏ فقه بالكسر أي فهم وفقه بالضم إذا صار فقيهاً أي فهماً أو عالماً بالفقه بالمعنى العرفي المبين في كتب الأصول، والفعل هنا متعد إلا أنه حذف مفعوله للتعميم أي لهم قلوب ليس من شأنها أن يفهموا بها شيئاً مما شأنه أن يفهم فيدخل فيه ما يليق بالمقام من الحق ودلائله دخولاً أولياً، وكذا الكلام في قوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا‏}‏ فيقال‏:‏ المراد لا يبصرون بها شيئاً من المبصرات فيندرج فيه الشواهد التكوينية الدالة على الحق اندراجاً أولياً، وكذا يقال في قوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا‏}‏ حيث يراد لا يسمعون بها شيئاً من المسموعات فيتناول الآيات التنزيلية على طرز ما سلف، وأمر الوصفية في الأخيرين مثله في الأول، والمراد بالإبصار والسماع المنفيين ما يختص بالعقلاء من الإدراك على ما هو وظيفة الثقلين لا ما يتناول مجرد الإحساس بالشبح والصوت كما هو وظيفة الإنعام، وجاء في كلامهم نحو فلان لا يسمع الخنا أي لا يعتني به ولا يصرف سمعه إليه ولا يقبله، ومن ذلك قول الشاعر‏:‏

وعوراء الكلام صممت عنها *** وإني لو أشاء لها سميع

وفي إعادة الخبر في الجملتين المعطوفتين مع انتظام الكلام بدون ذلك بأن يقال‏:‏ وأعين لا يبصرون بها وآذان لا يسمعون بها ما لا يخفى من تقرير سوء حالهم، وكذا في إثبات المشاعر الثلاثة لهم ثم وصف كل بما وصف به دون سلبها عنهم ابتداءً بأن يقال‏:‏ ليس لهم قلوب يفقهون بها ولا أعين يبصرون بها ولا آذان يسمعون بها ما لا يخفى على ما قيل من الشهادة بكمال رسوخهم في الجهل والغواية، وتفسير الآية على هذا الوجه واعتبار حذف المفعول لما ذكرنا من الأفعال الثلاثة هو الذي اختاره بعض المحققين لما فه من الإفصاح بكنه حالهم على ما ىشار إليه، واختار بعضهم التخصيص أي لا يفقهون الحق ودلائله ولا يبصرون ما خلق الله تعالى إبصار اعتبار ولا يسمعون الآيات والمواعظ سماع تأمل وتفكر، وأياً ما كان فالمراد أنهم لم يصرفوا ما خلق لهم لما خلق له فكأنهم خلقوا كذلك، ولو أريدت الحقيقة لم يتوجه الذم ولم تقم الحجة؛ ومن ادعاها قال‏:‏ إن ذلك بسبب إفاضة الحكيم حسب الاستعداد الأزلي الغير المجعول فالذم بذلك لادلالته على سوء الاستعداد لأنه كالأثر له، وبالجملة لا تقوم الآية دللاً للجبر الصرف ولو ضم إليها ما قبل، والجبر المتوسط مما قال به أهل الحق وهو لبن خالص أخرج من بين فرث ودم، وحاصله عند بعض المشايخ أن العبد مختار مجبور باختاره، ولعل كلام حجة الإسلام الغزال حث قال من كلام طول‏:‏ فإن قلت‏:‏ إني أجد في نفسي أني إن شئت الفعل فعلت وإن شئت الترك تركت فكون فعلي حاصلاً بي ولا بغيري، أجبنا وقلنا‏:‏ هب إنك وجدت من نفسك ذلك إلا أنا نقول‏:‏ وهل تجد من نفسك إنك إن شئت أن تشاء شئت وإن شئت أن لا تشأ لم تشأ‏؟‏ ما أظنك تقول ذلك وإلا لذهب الأمر فيه إلى ما لا ينهاية له فلا مشيئتك بك ولا حصول فعلك بعد حصول مشيئتك بك وإنما أنت مضطر في صورة مختار انتهى‏.‏

يرجع إلى ما ذكرنا، وقد استوفينا الكلام في هذا البحث في كتابنا الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية وهو لعمري من مشكلات المباحث التي سأل عنها الإيرانون‏.‏

‏{‏أولئك‏}‏ أي الموصوفن بالأوصاف المذكورة ‏{‏كالانعام‏}‏ أي في انتفاء الشعور على الوجه المذكور، وقيل في أن مشاعرهم متوجهة إلى أسباب التعيش مقصورة عليها وكأن وجه الشبه مدرك مما قبل فتكون الجملة كالتأكيد له فلذا فصلت عنه ‏{‏بَلْ هُمْ أَضَلُّ‏}‏ من الأنعام لأنها تدرك ما من شأنها أن تدركه من المنافع والمضار فتجهد في جلبها وسلبها غاية ما يمكنها وهؤلاء ليسوا كذلك حيث لم يميزوا بين المنافع والمضار بل يعكسون الأمر فيتركون النعيم ويقدمون على العذاب الأليم، وقيل‏:‏ لأنها إذا زجرت انزجرت وإذا أرشدت إلى طريق اهتدت وهؤلاء لا يهتدون إلى شيء من الخيرات‏.‏ وقيل‏:‏ لأنها لم تعط قدرة على تحصيل الفضائل وهؤلاء أعطوا ولم ينتفعوا بما أعطوا، ولأنها وإن لم تكن مطيعة لم تكن عاصية وهؤلاء عصاة فهم أسوأ حالاً منها‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ لأنها تعرف صاحبها وتذكره وتطيعه وهؤلاء لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه ولا يطيعونه، وبالجملة كون هؤلاء أضل مما لا شك فيه ووجوه ذلك كثيرة ولا تنافي بين الخبرين كما لا يخفى‏.‏

‏{‏أولئك‏}‏ أي المنعوتون بما ذكر من مثلية الأنعام والشرية منها ‏{‏هُمُ الغافلون‏}‏ أي الكاملون في الغفلة عما فيه صلاحهم‏.‏ وقال عطاء‏:‏ عما أعد الله تعالى لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب، وجعل بعضهم هذه الجملة كالبان للجملة قبلها فلذا فصلت عنها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏180‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏180‏)‏‏}‏

‏{‏وَللَّهِ الاسماء الحسنى‏}‏ قل‏:‏ تنبيه للمؤمنين على كيفية ذكره تعالى وكيفية المعاملة مع المخلين بذلك الغافلين عنه سبحانه وتعالى وعما يليق بشأنه عز شأنه إثر بيان غفلتهم التامة وضلالتهم الطامة، وسيأتي إن شاء الله تعالى وجه آخر لذكر ذلك‏.‏

والمراد بالأسماء كما قال حجة الإسلام الغزالي وغيره الألفاظ المصوغة الدالة على المعاني المختلفة، والحسنى تأنيث الأحسن أفعل تفضيل، ومعنى ذلك أنها أحسن الأسماء وأجلها لأنبائها عن أحسن المعاني وأشرفها، وقيل‏:‏ المراد بالأسماء الصفات ويكون من قولهم طار اسمه في البلاد أي صييته ونعته، والجمهور على الأول لقوله عز اسمه‏:‏ ‏{‏فادعوه بِهَا‏}‏ لأنه إما من الدعوة بمعنى التسمية كقولهم‏:‏ دعوته زيداً أو بزيد أي سميته أو من الدعاء بمعنى النداء كقولهم‏:‏ دعوت زيداً أي ناديته، وعلى التقديرين إنما يلائم ظاهر المعنى الأول على ما قيل‏.‏

‏{‏وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ فِى أَسْمائِهِ‏}‏ أي يميلون وينحرفون فيها عن الحق إلى الباطل يقال‏:‏ ألحد إذا مال عن القصد والاستقامة، ومنه لحد القبر لكونه في جانبه بخلاف الضريح فإنه في وسطه، وقرأ حمزة هنا وفي فصلت ‏{‏يُلْحِدُونَ‏}‏ بالفتح من الثلاثي والمعنى واحد، وروى أبو عبيدة عن الأحمر أن ألحد بمعنى مارى وجادل، ولحد بمعنى مال وانحرف، واختار الواحدي قراءة الجمهور قال‏:‏ ولا يكاد يسمع لأحد بمعنى ملحد، والإلحاد في أسمائه سبحانه أن يسمى بما لا توقيف فيه أو بما يوهم معنى فاسداً كما في قول أهل البدو يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه يا سخي ونحو ذلك، فالمراد بالترك المأمور به الاجتناب عن ذلك، وبأسمائه ما أطلقوه عليه تعالى وسموه به على زعمهم لا أسماؤه تعالى حقيقة، وعلى ذلك يحمل ترك الإضمار بأن يقال‏:‏ يلحدون بها، وما قيل‏:‏ إنه أريد بالأسماء التسميات فلذا ترك الإضمار ليس بشيء، ومن فسر الإلحاد في الأسماء بما ذكر ذهب إلى أن أسماء الله تعالى توقيفية يراعي فيها الكتاب والسنة والإجماع فكل اسم ورد في هذه الأصول جاز أطلاقه عليه جل شأنه وما لم يرد فيها لا يجوز إطلاقه وإن صح معناه، وبهذا صرح أبو القاسم القشيري في مفاتيح الحجج ومصابيح النهج، وفي أبكار الأفكار للآمدي ليس مأخذ جواز تسميات الأسماء الحسنى دليلاً عقلياً ولا قياساً لفظياً وإلا لكان تسمية الرب تعالى فقيهاً عاقلاً مع صحة معاني هذه التسميات في حقه وهي العلم والفقه أولى من تسميته سبحانه وتعالى بكثير مما يشكل ظاهره بل مأخذ ذلك إنما هو الإطلاق والإذن من الشارع فكل ما ورد الإذن به منه جوزناه وما ورد المنع منه منعناه وما لم يوجد فيه إطلاق ولا منع فقد قال بعض أصحابنا بالمنع منه وليس القول بالمنع مع عدم وروده أولى من القول بالجواز مع عدم وروده إذ المنع والجواز حكمان، وليس إثبات أحدهما مع عدم الدليل أولى من الآخر بل الحق في ذلك هو الوقف وهو أنا لا نحكم بجواز ولا منع والمتبع في ذلك كله الظواهر الشرعية كما هو المتبع في سائر الأحكام وهو أن يكون ظاهراً في دلالته وفي صحته ولا يشترط فيه القطع كما ذهب إليه بعض الأصحاب لكون المنع والجواز من الأحكام الشرعية، والتفرقة بين حكم وحكم في اشتراط القطع في أحدهما دون الآخر تحكم لا دليل عليه انتهى، وأنت تعلم أن المشهور التفرقة بين الأحكام الأصولية الاعتقادية والأحكام الفرعية العملية كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى قريباً، وخلاصة الكلام في هذا المقام أن علماء الإسلام اتفقوا على جواز إطلاق الأسماء والصفات على الباري تعالى إذا ورد بها الإذن من الشارع وعلى امتناعه إذا ورد المنع عنه، واختلفوا حيث لا إذن ولا منع في جواز إطلاق ما كان سبحانه وتعالى متصفاً بمعناه ولم يكن من الأسماء الأعلام الموضوعة في سائر اللغات إذ ليس جواز إطلاقها عله تعالى محل نزاع لأحد، ولم يكن إطلاقه موهماً نقصاً بل كان مشعراً بالمدح فمنعه جمهور أهل الحق مطلقاً للخطر، وجوزه المعتزلة مطلقاً، ومال إليه القاض أبو بكر لشيوع إطلاق نحو خدا وتكرى من غير نكير فكان إجماعاً، ورد بأن الإجماع كاف في الإذن الشرعي إذا ثبت‏.‏

واعترضه أيضاً أمام الحرمين بأنه قول بالقياس وهو حجة في العمليات والأسماء والصفات من العمليات، وروى بعضهم عنه التوقف، وذكر في «شرح المواقف» أن القاضي أبا بكر ذهب إلى أن كل لفظ دل على معنى ثابت لله تعالى جاز إطلاقه عليه إذا لم يكن موهماً لما لا يليق بذاته تعالى، ثم قال‏:‏ وقد يقال‏:‏ لا بد مع نفي ذلك الإيهام من الإشعار بالتعظيم حتى يصح الإطلاق بلا توقف وجعل مذهب المعتزلة غير مذهبه والمشهور ما ذكرناه‏.‏

وفصل الغزالي قدس سره فجوز إطلاق الصفة وهو ما دل على معنى زائد على الذات ومنع إطلاق الاسم وهو ما يدل على نفس الذات محتجاً بإباحة الصدق واستحبابه والصفة لتضمنها النسبة الخبرية راجعة إليه وهي لا تتوقف إلا على تحقق معناها بخلاف الاسم فإنه لا يتضمن النسبة الخبرية وأنه ليس إلا للأبوين أو من يجري مجراهما‏.‏ وأجيب بأن ذلك حيث لا مانع من استعمال اللفظ الدال على تلك النسبة والخطر قائم، وأين التراب من رب الأرباب‏؟‏‏.‏

واختار جمع من المتأخرين مذهب الجمهور قالوا‏:‏ فيطلق ما سمع على الوجه الذي سمع ولا يتجاوز ذلك إلا فـ التعرف والتنكر سواء أوهم كالصبور والشكور والجبار والرحيم أو لم يوهم كالقادر والعالم، والمراد بالسمعي ما ورد به كتاب أو سنة صحيحة أو إجماع لأنه غير خارج عنهما في التحقيق بخلاف الضعيفة والقياس أيضاً إن قلنا‏:‏ إن المسألة من العلميات أما إن قلنا‏:‏ إنها من العمليات فالسنة الضعيفة كالحسنة إلا الواهية جداً، والقياس كالإجماع، وأطلق بعضهم المنع في القياس وهو الظاهر لاحتمال إيهام أحد المترادفين دون الآخر‏.‏

وجعل بعضهم من الثابت بالقياس المترادفات من لغة أو لغات، وليس بذاك، ومن الثابت بالإجماع الصانع والموجود والواجب والقديم، قيل‏:‏ والعلة، وقيل‏:‏ الصانع والقديم مسموعان كالحنان والمنان، ونص بعض المحققين على أنه يمنع إطلاق غير المضاف إذا كان مرادفاً للمضاف المسموع قياساً كما يمنع إطلاق ما ورد على وجه المشاكلة والمجاز، وأنه لا يكفي ورود الفعل والمصدر ونحوهما في صحة إطلاق الوصف فلا يطلق الحارث والزارع والرامي والمستهزىء والمنزل والماكر عليه سبحانه وتعالى وإن جاءت آيات تشعر بذلك‏.‏

هذا ومن الناس من قال‏:‏ إن الألفاظ الدالة على الصفات ثلاثة أقسام‏:‏ الأول ما يدل على صفات واجبة وهو أصناف‏:‏ منها ما يصح إطلاقه مفرداً لا مضافاً نحو الموجود والأزلي والقديم وغيرها، ومنها ما يصح إطلاقه مفرداً ومضافاً إلى ما لا هجنة فيه نحو الملك والمولى والرب والخالق‏.‏ ومنها ما يصح مضافاً غير مفرد نحو يا منشىء الرفات ومقيل العثرات، والثان ما يدل على صفات ممتنعة نحو اليد والوجه والنزول والمجىء فلا يصح إطلاقه البتة، وإن ورد به السمع كان التأويل من اللوازم‏.‏ والثالث ما لا يدل على صفات واجبة ولا ممتنعة بل يدل على معان ثابتة نحو المكر والخداع وأمثالهما فلا يصح إطلاقه إلا إذا ورد التوقيف، ولا يقال‏:‏ يا مكار يا خداع البتة وإن كان مذكوراً ما يدل عله كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 54‏]‏ انتهى، ولا يخفى ما فيه‏.‏ وذكر الطيبي أن الحق الاعتماد في الإطلاق على الإطلاق على التوقيف، وأن كل ما أذن الشارع أن يدعي به الله عز وجل سواء كان مشتقاً أو غير مشتق فهو اسم، وكل ما نسب إليه سبحانه وتعالى من غير ذلك الوجه سواء كان مؤولاً أو غير مؤول فهو وصف؛ وجعل الحي وصفاً والكريم اسماً وادعى أنه يقال يا كريم ولا يقال يا حي مع ورود اللفظين فيه سبحانه وتعالى فيما أخرجه أبو داود‏.‏ والترمذي من حديث سلمان رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «الله تعالى حي كريم يستحي إذا رفع العبد يده أن يردها صفراً حتى يضع فيها خيراً» وذكر أن التعريف في الأسماء للعهد وأنه لا بد من المعهود لأنه سبحانه وتعالى أمر بالدعاء بها ونهى عن الدعاء بغيرها وأوعد على ذلك‏.‏

وروى الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً من حفظها دخل الجنة» وفي رواية أحصاها، وفي أخرى «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً» وأوتي فيه بالفذلكة والتأكيد لئلا يزاد على ما ورد‏.‏ وجاءت معدودة في بعض الروايات بقوله عليه الصلاة والسلام «هو الله لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق الباريء المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباحث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدىء المعيد المحيي المميت الحي القيوم الواجد الماجد الواحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعال البر التواب المنتقم العفو الرؤوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور»‏.‏ ونقل عن أهل البيت رضي الله تعالى عنهم غير ذلك وأخذوها من القرآن؛ وجاء أيضاً عندنا ما يخالف هذه الرواية في بعض الأسماء‏.‏

وذكر غير واحد من العلماء أن هذه الأسماء منها ما يرجع إلى صفة فعلية ومنها ما يرجع إلى صفة نفسية ومنها ما يرجع إلى صفة سلبية‏.‏ ومنها ما اختلف في رجوعه إلى شيء مما ذكر وعدم رجوعه وهو الله والحق أنه اسم للذات وهو الذي إليه يرجع الأمر كله، ومن هنا ذهب الجل إلى أنه الاسم الأعظم، وتنقسم قسمة أخرى إلى ما لا يجوز إطلاقه على غيره سبحانه وتعالى كالله والرحمن وما يجوز كالرحيم والكريم وإلى ما يباح ذكره وحده كأكثرها وإلى ما لا يباح ذكره كذلك كالمميت والضار فإنه لا يقال‏:‏ يا مميت يا ضار بل يقال‏:‏ يا محيي يا مميت ويا نافع يا ضار، والذي أراه أنه لا حصر لأسمائه عزت أسمائه في التسعة والتسعين، ويدل على ذلك ما أخرجه البيهقي عن ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أصابه هم أو حزت فليقل‏:‏ اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي في يدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وذهاب همي وجلاء حزني» الحديث، وهو صريح في عدم الحصر لمكان أو وأو‏.‏

وحكى محيي الدين النووي اتفاق العلماء على ذلك وأن المقصود من الحديث الإخبار بأن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة وهو لا ينافي أن له تعالى أسماء غيرها غير موصوفة بذلك‏.‏

ونقل أبو بكر بن العربي عن بعضهم أن له سبحانه وتعالى ألف اسم ثم قال‏:‏ وهذا قليل وهو كما قال‏.‏ وعن بعضهم أنها أربعة آلاف، وعن بعض الصوفية أنها لا تكاد تحصى، والمختار عندي عدم توقف إطلاق الأسماء المشتقة الراجعة إلى نوع من الصفات النفسية والفعلية وكذا الصفات السلبية عليه تعالى على التوقيف الخاص بل يصح الإطلاق بدونه لكن بعد التحري التام وبذل الوسع فيما هو نص في التعظيم والتحفظ إلى الغاية عما يوهم أدنى أدنى نقص معاذ الله تعالى في حقه سبحانه لأنا مأذونون بتعظيم الله تبارك وتعالى بالأقوال والأفعال ولم يحد لنا حد فيه؛ فمتى كان في الإطلاق تعظيم له عز وجل كان مأذوناً به، والتكليف منوط بالوسع ‏{‏لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ فبعد بذل الوسع في التعظيم يرتفع الحرج‏.‏

وحديث الخطر الذي يذكرونه يستدعي أن لا يصح إلا إطلاق ما ثبت تواتراً إطلاقه عليه جل وعلا أو اجتمعت الأمة على إطلاقه لأن الثبوت فيما عدا ذلك ظني والخطر فيه يقيني، والأسماء المتقدمة آنفاً لم يوجد في كثير من الروايات ذكرها وهي مشهورة من حديث الترمذي، وقد قال‏:‏ إنه حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح ولا نعرفه إلا من حديثه وهو ثقة عند أهل الحديث، وأنت تعلم أن هذا القدر لا يثبت به اليقين بل ولا بمثله ومثله، على أن عد بعض أهل البيت كما في الدر المنثور للتسعة والتسعين وكذا غيرهم كما لا يخفى على المتتبع يخالف هذا العد، وسند ذلك الخبر وإن لم يكن في المتانة كسند هذا إلا أنه لا أقل يورث الشبهة اللهم إلا أن يقال‏:‏ حصل الإجماع على ما في حديث الترمذي دون ما في حديث غيره المخال له لكن لم أقف على من حكى ذلك‏.‏

ثم إن هذه الأسماء المذكورة مما ذكرنا لا مانع من الدعاء بها ومن إجرائها اخباراً عنه سبحانه وتعالى أو أوصافاً له جل وعز وكلها حسنى، وتسميتها بذلك من جهة أنها بالمعنى المراد منها بالنسبة إليه تعالى مختصة به جل وعلا اختصاص الاسم ولا تطلق على غيره بالمعنى المراد مها حال إطلاقها على الله تعالى وإنما تطلق على الغير بمعنى آخر ليس بينه وبين ذلك المعنى إلا كما بين السواد والبياض فإن بينهما غاية البعد الذي لا يتصور أن يكون بعد فوقه لكنهما متشاركان في العرضية واللونية والمدركية بالبصر وأمور أخر سوى ذلك، وبهذا لا يعد البياض مماثلاً للسواد أو بالعكس لأن المماثلة عبارة عن المشاركة في النوع والماهية وهي مفقودة هنا وكذا هي مفقودة بين العلم مثلاً الذي يوصف الله تعالى به والعلم الذي يوصف غيره سبحانه وتعالى به ولا يعلم حقيقة ذلك وماهيته إلا الله تعالى كما لا يعرف حقيقة الله تعالى إلا الله تعالى في الدنيا والآخرة‏.‏

نعم لو قال قائل‏:‏ لا أعرف إلا الله تعالى صدق ولكن من جهة أخرى، ونهاية معرفة العارفين العجز عن المعرفة، ومعرفتهم بالحقيقة أنهم لا يعرفونه فإذا انكشف لهم ذلك فقد عرفوا وبغلوا المنتهى الذي يمكن في حق الخلق من معرفته سبحانه وتعالى‏.‏

وهذا الذي أشار إليه الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه حيث قال‏:‏ العجز عن درك الإدراك إدراك بل هو الذي عناه سيد البشر صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ «لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» فإنه عليه الصلاة والسلام أراد إني لا أحيط بمحامدك وصفات إلهيتك وإنما أنت المحيط به وحدك لا أني أعرف منك ما لا أستطيع التعبير عنه بلساني، وتفاوت درجات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والملائكة والأولياء في المعرفة إنما هو بالوقوف على عجائب آياته في ملكوت السموات والأرض وخلق الأرواح والأجساد وحينئذ يتفاوتون في معرفة الأسماء والصفات، ومعرفة أن زيداً عالماً مثلاً ليست كمعرفة تفاصيل علومه كما لا يخفى، ولا يرد على ما ذكرنا من الاختصاص أنه يأباه تقسيمهم أسماءه تعالى إلى مختص كالرحمن وغير مختص كالرحيم لأن مرادهم بالمختص ما اعتبر في مفهومه المطابقي ما يمنع من الإطلاق على الغير، وقد نص البيضاوي على أن معنى الرحمن المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها وذلك لا يصدق على غير تعالى فلذا لا يوصف به، وبغير المختص ما لم يعتبر في مفهومه ذلك بل اعتبر فيه معنى عام فيطلق لذلك على الله تعالى وعلى غيره، لكن حال إطلاقه عليه تعالى يراد الفرد الكامل من ذلك المفهوم الذي لا يليق ولا يمكن أن يثبت إلا لله عز وجل، وقد يقال‏:‏ لا فرق بين الأسماء المشتقة التي يوجد في الغير مبدأ اشتقاقها في الجملة من حيث أن اعتبار ذلك الوجود يقتضي عدم الاختصاص، واعتبار الوجود على أتم وجه وأكمله يقتضي لاختصاص من غير تفرقة بين اسم واسم إلا أنا حكمنا بالاختصاص في بعض وبعدمه في آخر لأمر آخر كالاستعمال وعدم الاستعمال وأذن الشارع وعدم إذنه فلا يأبى ما قلناه أيضاً نعم اعتبا رالاختصاص بالله تعالى في الأسماء المذكورة في الآية لا يتأتى فيها بناء على أن تقديم الخبر يفيد الاختصاص أيضاً فيكون المعنى لله لا لغيره الأسماء التي تختص به تعالى ولا تطلق على غيره، ويؤذل إلى أن الأسماء المختصة به سبحانه وتعالى مختصة به جل وعلا وهو مما لا فائدة فيه، وحينئذ لا بد إما من حمل الأسماء على الصفات كما قال البعض، ومعنى الحسنى الكاملة من كل وجه أي لله تعالى لا لغيره الصفات الكاملة لأن صفات غيره سبحانه وتعالى كيفما كانت ناقصة لا أقل من أن العدم محيط بطرفيها، ومعنى فادعوه بها الخ سموه بما يشتق منها أو نادوه بذلك وذروا الذين يميلون عن الحق في صفاته فيسمون بها غير أو يدعون معتقدين الشركة ودعوهم وإلحادهم، وإما من ارتكاب ضرب من التجوز، وما ذكره الطيبي من أن التعريف في الأسماء للعهد إلى آخر ما قاله مما لا أظنك في مرية من ركاكته فتأمل‏.‏

وجوز أن يراد بالإلحاد العدول عن تسميته تعالى ببعض أسمائه الكريمة كما قالوا‏:‏ وما الرحمن‏؟‏ إنا لا نعرف إلا رحمن اليمامة، وعليه فالمراد بالترك الاجتناب كما أريد أولاً بالأسماء أسماؤه تعالى حقيقة، فالمعنى سموه تعالى بجميع أسمائه واجتنبوا إخراج بعضها من البين، وأن يراد به إطلاقها على الأصنام واشتقاق أسمائها منها كاللات من الله تعالى والعزى من العزيز، فالمراد من الأسماء أسماؤه تعالى حقيقة، والإطهار في موضع الإضمار مع التجريد عن الوصف في الكل للإيذان بأن إلحادهم في نفس الأسماء من غير اعتبار الوصف‏.‏ والمراد بالترك الإعراض وعدم المبالاة بما فعلوا ترقباً لنزول العقوبة فيهم عن قريب كما يشير إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ فإنه استئناف وقع جواباً عن سؤال مقدر كأنه قيل‏:‏ لم لا نبالي‏؟‏ فقيل‏:‏ لأنه سينزل بهم عقوبة وتشتفون عن قريب، والمعنى على الأمر بالاجتناب اجتنبوا إلحادهم كيلا يصيبكم ما يصيبهم فإنه سينزل بهم عقوبة ذلك‏.‏